الأربعاء، 5 فبراير 2014

المعصومون!

بادِئَ ذي بِدء، و قبل كل شيء، فإنَّ هذا المقال ليس لِمُسترضي الجماهير الغفيرة مِن الغاوين و لا للهائمين بالبَلاط الملكيِّ مِن المتزلِّفين، و إنَّما هو لِقَومٍ يقضون بالقِسط و هُم به يعدِلون!

 فإنِّي –و بعد التَّسليم الكامل بفساد السُّلطة و فشلِها في إدارة الدَّولة فشلاً ذريعاً واضحاً للعَيان بيِّناً جلِيّاً، حتى إنَّه لَيراه الضَّرير مِنَّا قبل البصير– أقول:

هل مجتمعنا هذا، و على الرَّغم مِن كُلِّ هذا الفساد الشَّامل المستشري في تلافيفِه، مجتمعٌ مُؤهَّلٌ لامتِشاقِ سيفِ الإصلاح و إشهارِ ذُؤابتِه في وجهِ السُّلطة نصْلاً برَّاقاً مصقولاً مُسَلَّطاً؟!

أوليس الفساد نابعاً من الفرد عينه الذي يُطالب السُّلطة الفاسدة بترميم ذاتها؟! أولسنا –كشعب– نبحث جاهِدين عن قوانينَ تضبط السُّلوك، و ما ساءلنا أنفسنا –و لو مرة– عن ضمائرنا أحيَّةٌ هي أم في عداد الموتى؟!

انظروا في حال جُلِّ الطلاب: هل ترون إلا غشاً مَقيتاً؟! ألَيْسوا يستعذِبون ذلِكُمُ الغِشَّ كما الماءِ الزُّلالِ يروي الأكباد العطْشى؟! ألَيْسوا إنْ أُمِّرَ عليهم أستاذٌ صارِمُ الطَّبع، إذا هُم يفِرُّون مِنه مُدبِرين؟!

ثُمَّ انظروا في حال جُلِّ الموظفين: هل ترون إلا استهتاراً مُبيناً؟! ألَيْسوا يستسيغون ذلِكُمُ الاستهتارَ كما اللُّقمة السَّائغة تسُدُّ البُطون السَّغبى؟! ألَيْسوا إنْ وُلِّيَ عليهم مسؤولٌ حازِمُ الخُلَّة، إذا هُم يجأرون مِنه ساخِطين؟!

أمَا آن لنا –و نحن المجتمعُ الفاضِلُ في ظنِّ أنفُسِنا– أنْ ننكأ الجِراح التي لطالما أنِفنا أنْ ننكأها، لا لشيءٍ سوى أنَّها تستوطن مِنَّا أجسادنا؟!

أيُعقل في عقل الصَّحيح –على الكفَّة الأولى– أنَّ مصير كُلِّ فسادٍ مجتمعيِّ المصدر: التَّغافُلَ و غضَّ الطَّرف و الموارَبةَ و المواراةَ و الإعراضَ و التَّغاضي؟!

أيستقرُّ في فهم اللَّبيب –على الكفَّة الأخرى– أنَّ مآل كلِّ فسادٍ سلطويِّ المبعث: الاستنكارَ و الافتضاحَ و الإفشاءَ و الإدانةَ و اللَّمزَ و التَّشهير؟!

أوَهذا هو الميزان الحَقُّ الذي ما فتِئتُم به تتشدَّقون؟!
أوَهذا هو القِسطاس المستقيم الذي إليه تحتكِمون؟!

فويلٌ لكُم –إذن– أيُّها المطفِّفون! 

إنَّنا –و أصدَعُ بها مُوقِناً– مجتمعٌ أُترِفَ حتَّى استمرأ الفوضى، فلا يستطيع في كَنَفِ القانون حياةً و لا مَعاشاً!

إنَّنا نبدأ بإصلاح الآخَر دائماً، و نتناسى أنَّ أنفُسَنا بالإصلاح أولى؛ فما لم يبدأ ناصحٌ بأمره فأصلحه، فليس –و اللهِ– مُصلحاً صادقاً!

و لا تسوقوا ليَ البيت الشِّعريَّ القائل: «إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضارِباً، فشيمة أهل بيته الرَّقصُ»؛ فما لَم يطرَبوا لِضربِه، لما على أنغامِه تراقَصوا!

و أخيراً، فإنَّ كَون أفراد السُّلطة كمِثل الأبالسةِ الشَّياطين تتقافَزُ في نيران الجَحيم، لا يعني –بحالٍ– أنَّ المجتمع ملائكةٌ نَورانِيُّون يمشون في طُهرِهم مُطمئنِّين!

فاعدِلوا –أيُّها المصلِحون–: هُو أقرَبُ للتَّقوى، و لا يُنسِيَنَّكُم عوارُ الآخَرين عوارَ أنفُسِكُم إنْ كُنتُم، بإصلاحِكُم الذي تزعُمون، صادِقين!

و تذكَّروا أنَّه لن يستقيم رأسُ الهرم و اللَّبِناتُ دونَه مِعوجَّة! 

ذلكم ذِكرى للذَّاكرين!

الأربعاء، 29 مايو 2013

حذارٍ مِن الفُرقة؛ فثَمَّ العمائم!

إني لَيَحزُنني -كما قد يَحزُن غيريَ الكثير- ما آلَ إليه حالُ بعضِ رجالِ دينٍ أو علمٍ فُضَلاءَ لطالما تطلَّعتُ إليهم -و ما زلت- بعينِ مُحسنٍ فيهم الظَّن و متوسِّمٍ فيهم الخير، إذ إنَّهم -و هذا مدعاةُ وجْدي- قد تفرَّقت بهم -أخيراً- السُّبُل عن تبدُّلٍ في القَناعات التي يعتنقون، فَرَضَهُ عليهم تقادمُ العُمر بهم و مضيُّ الزمن، فاختلفوا حتى طاوَلوا بينهم الخِصام، و قد كانوا من قبلُ أشباهَ مُتَّفقين.

إنَّ الرَّائيَ المتمعِّنَ فيما يكون بينهم -الساعةَ- من شأنٍ، و بدلاً من أن تقَرَّ بتوحُّدِ كلمتِهم -في الدين- عينُه (فيكونوا عند العِدا صفاً واحداً)، أصبح يرنو بصرُه نحو ما يكون من تراشقٍ في الحوار بينهم (لِشذوذِ قوْلٍ في الدين أصابَه أحدهم) عبر الصُّحف و الوسائط السمعية و البصرية، إلى أن أضحت سجالاتٌ كهذه أمراً تَألفُه العيون، حتى إنَّها لَيتفقَّدُها -إن غابت يوماً- المتعصِّبون من المتتبِّعين.

و لستُ -في مقاميَ المتواضع هذا- بسارِدٍ ما يكون من أدبِ النُّصح و طِيبِ المعاملة على مسامع هاماتٍ هي أعلم مني بهما، و لا أنا بمُشكِّكٍ في حتميةِ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر -بين المتحابِّين- في مواقفَ كهاتِه؛ و لكني أؤمِّلُ -فيما أؤمِّل- أن أكون ناصحاً لمقامِ أولئكم الرفيعِ أميناً، إلى التَّوادِّ و التَّراحُم بينهم أسعى.

إنَّ الناظرَ من المدقِّقين، المجتهدَ منهم في إنصافه رجالَ الدين أولئكم، لَيجدُ أمرَهم قد تفرَّق بينهم إلى شُعلاتٍ ثلاثٍ، أبتهل إلى الله راجياً أن يكون من مشكاةِ النبوةِ النقيةِ انبثاقُها جميعاً.

فأمَّا أولى الشُّعلات، فهي لحزمةٍ من خيرةِ علماء الأصول في أيِّ فرعٍ من فروع العلوم الشرعية؛ و أمَّا الشُّعلة الأخرى، فهي لحمَلةِ لواء النَّقْلِ عن علماء الأصول السالف ذِكرُهم؛ و أمَّا ثالثتُهما، فتلكم للواعظين من القصَّاصين.

إنَّ نظرةً عن كثبٍ إلى ثلاثِ الشُّعلات هذه نُلقيها تُفضي بنا إلى غير تجانسٍ يُنفِّر فيما بينَها، مَرجِعُه أنَّ كُلاً من علماءِ الأصول و نقَلَتِها لا يرونَ من الواعظين القصَّاصين إلا ركاكةً في علومهم، لا تشفعُ لواحدِهم كيما يكون له مجلسٌ يستقي العامةُ من مناهلِه.

و على هذا، فإني أقول -و أرجو أن أكون في قوْلي هذا مُصيباً- إنَّ أولئكمُ الواعظين القصَّاصين قد انشطروا -كدأْب مَن سبقَهم آنِفاً- إلى فرقَتَيْن اثنتين: إحداهما لها أفرادٌ لهم من العلم ما يوظِّفُونه فيما اشتُهِروا أنهم أُولوا صنعةٍ فيه، و لا يَزيدون على ذلكم و لا يُنقِصون؛ و أُخراهُما لها شخوصٌ تعالت بعقولِها و اغتَرَّت بأفهامِها حتى لقد ظنُّوها -بزعمٍ من عند أنفسهم- ناهزتْ الشرع الحنيف بقرآنه، فهي تُفسِّره و تُنظِّره، و تشطحُ فيما ليس فيه، بل و تخوض بألسنتِها حتى تجعل من القرآن نِدّاً لصِحاح أحاديثٍ هي في الأصل مُفصِّلةٌ لعُمومِه كاشفةٌ لغموضِه؛ و هي -بذلكم- تهرِف بما يُعرَف عنها أنَّها لا تفقه فيه حديثاً. 

و إذن، فمن الجور العظيم -و ذلكم حالُهما- جَعْلَهما أمام مسطرة علماءِ الأصول و نقَلتِها صفاً واحداً.

فأمَّا الفرقة الأولى، فسليمٌ -بحول الله- منهجُها، طريقُه -بعون الله- قويمٌ؛ و إنَّها لَيكفيها -إنْ زلَّت بها الأقدام- نُصحاً من وراء حجابٍ، يبذلُه من أجلها علماءُ الأصول و نقَلَتُها، يُقوِّمُ لها عِوجاً اعتوَرَها و يَقيها شرّاً يُضمِرُهُ لها مُتصيِّدو العثرات من المتربصين.

و أمَّا الفرقةُ الأخرى، فهي أحوَج إلى ألسنةٍ حِدادٍ أشحةٍ على الخير: تجلِدُها -إنْ لم تُبدِ تراجُعاً- بالقولِ الفصل، و تُصليها -إنْ لم تنتَهِ عمَّا تُنهى- بالحُجَّةِ الدَّامِغة؛ و على اللهِ -في المسلكيْن- قصْدُ السَّبيل.

إنَّ صراعاتٍ كهذه في مجتمعٍ سُنِّيِّ المذهب لَيُذهِبُ بشوكتِه إلى أرذلِ المذاهب؛ فبدَلاً مِن أن تكون شوكةً يتجَرَّعُها روافِضُ خِلافةِ الشَّيخين فلا يُسيغونَها، أضحتْ شوكةً في حُلقومِ أمَّةِ السُّنَّةِ تُشاكُها فتُدميها!

ألا فلْيُدثِّر كُلُّ ذي نصيحةٍ نُصحَه بالسِّترِ و لْيُسبِغ عليه سِربالاً مِن خَفاءٍ؛ فإنِّي لا أسمع حِيالَ تناوُشِنا بالخِلاف على رؤوس الأشهاد سوى قهقهاتِ سُودِ العمائم و العباءات يتردَّدُ صَداها في رِحاب العالَمين مُجلجِلاً!

فاللَّهم اكفِناهُم بما شئت!

الأحد، 24 يونيو 2012

مكْرُ العَسكر*: لماذا <مرسي>؟!

أمَا و قد وضعتْ انتخابات الرئاسة المصرية أوزارها و حاز خزائنَ مصر مَن حاز، فإنَّ لي استقراءاتٍ للواقع أبثُّها.

و إني بـ "الخديعة" مُكَنِّيها!

فإنه لَمن المعلوم لدى المهتمين بالشأن المصري من المتتبِّعين أنه، و منذ الأيام الأولى لِطلائع الناخبين إلى آخر أيام جولة الإعادة، كان مرشح الإخوان <مرسي> متقدماً -أمِن داخل مصر أو حتى خارجِها- على خصمه <شفيق> -ربيب النظام البائد- بتعدادٍ من الأصوات المؤيدة لا يستهان به، ما جعل منه مرشحاً لِنيْل الرئاسة -عند عامة الشعب- بشكلٍ حاسمٍ لا يقبل التشكيك، إلا ما كان من تزوير.

و قد حدا هذا بالمجلس العسكري -و قُبيل انقضاء زمن الانتخابات- أنْ يعلن عن كشفِه تدليساً انتخابياً -لِكِليْ المرشحيْن- زامنَه مَدٌّ في عُمُرِ الانتخابات، افتعله ذلكم المجلس كيما يستدعيَ الأمرُ إرجاءَ الخلاصِ إلى النتائج النهائية، ما أتاح له -و هو العارف بصعوبةِ انتصار <شفيق> و دنوِّ <مرسي> من مصر و مُلكِها- أنْ يجترح دستوراً تكميلياً له من البنود ما يذَرُ الرئيس الأقرب -<مرسي>، في تصوُّره- جسداً مُكبَّل الأطراف أو حتى مبتورَها، فلا حول له -من دونِها- و لا قوة.

فلما أن جاء يوم الفصل الموعود بين الخصيميْن، كان معلوماً لدى المجلس العسكري -بحُكم اضطلاعه في الشأن المصري الداخلي حتى النخاع- هويةَ الرئيس القادم -الذي هو <مرسي> فيما بعد-، و الذي أُرغِم المجلس العسكري على القبول بولايته على مضضٍ و تجرُّعِها كما العلقم.

أقول: "أُرغِم، و على مضضٍ"؛ لِسببين.

فأما الأول: فلأن صناديق الاقتراع -و هي أمل الثورة- كانت تصطفي -بكل الحزم و الوضوح- <مرسي>، و أنَّه أنما أيُّ تفوُّقٍ يحرزُه <شفيق> -أمام هذه الطفرة الإخوانية الساحقة العارية للعيان- سيعني عند الشعب تلاعُباً من قِبل المجلس العسكري بالنتائج، لا يضمن الأخير من عند الشعب له عاقبة.

و أما الثاني: فلأن المجلس العسكري راعى -على كيدٍ منه و دهاءٍ- كوْن الثورة المصرية التي أشعلتْ البلاد قبل عامٍ خلا -أو يزيد- ما اندلعتْ في ربوع مصر قاطبةً كيما يسوسَ البلادَ حُكمٌ هو امتدادٌ جائرٌ لحُكم <مبارك>، قد يُفضي بالشعبِ إلى ردِّ فعلٍ لا يأمن المجلس له -كذا- مُنتهى.

لهذا، كان حقاً على المجلس العسكري لزاماً أن يرتقيَ <مرسي> -بدلاً من <شفيق>- عرش مصر سلطاناً؛ كتماناً منه للحشود المستعِرة، و درءاً منه لِخرابٍ مُستطيرِ الشَّرَر قد يطال مصر إذا ما اعتلى فتيلُ <شفيق> عرشَها.

غيرَ أنَّه -و في الكفة الأولى- ما كان للمجلس العسكري -بعد ذلكم كلِّه- أنْ يتنازل عن السلطة لِصالح الإخوان بلا مقابلٍ أو ثمن، فما لبِث -كما أسلفتُ- أنْ ألزم <مرسي> -على الكفة الأخرى- بدستورٍ تكميليٍّ أرعنِ البنود، دسَّه له في ثنايا مقاليد الحُكم قبل أن يتسلَّمها، فحجَّم له به السُّلطة بين يديه؛ و بات المجلس العسكري -على إثرِه- قرير العين، متوسِّداً إحدى ذراعيْه و محلِّقاً في قبضة الأخرى بعُنُق <مرسي>. 

و حُقَّ لي أن أتساءل عندها: ما مَلِكٌ مُصفَّدٌ بقيودِ دستورٍ تكميليٍّ بحُكمِه فاعِلٌ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(*) إن المدقِّق -و بمعلوميته المسبقة باستحواذ <مرسي> على الغالب من الأصوات معظم الأوقات- لَيرى في النتائج النهائية بين المرشحيْن -و إنْ بُعيد استبعاد آلاف الأصوات- تقارُباً لصيقاً لا ينبغي، يشي بعبثِ المجلس العسكري الذي جعل منها -ربما لتكسُّبٍ شعبيٍّ آتٍ- نتائجَ هي أدعى للتصديق عند حزبٍ طريِّ عهدِ الحكم في مصر و عند أمةٍ لَطالما داعبتْ الديموقراطيةُ أحلامَها و سعتْ لها سعياً.

و إلا، فإنِّي لَأظن نتائج <مرسي> قد جاوزتْ تِلكُم بكثيرٍ، بيْد أنَّ المجلس العسكري أجهض بعضاً منها؛ كسراً منه لِشوكة الإخوان و تثبيطاً من عندِه لِنشوتهم بالنصر، و ذلكم يتمثل في إعلامهم أنهم ما حازوا عدا ثقةِ ما يربو بقليلٍ على النصف من الشعب، ما يجعل <مرسي> في سعيٍ حثيثٍ -في المستقبل القريب-: فإمَّا إرضاءً للنصف الآخر، أو فـ "على الكرسي السلام"!

السبت، 28 يناير 2012

عِلمٌ أعرجُ يختال!

ليس -فيما أظن- يختلف اثنان ذَوا عقلٍ على ما للعلم -دينياً كان أم دنيوياً- من شأنٍ علِيٍّ ينهض بالإنسان و يُعلي له قدْره بين الخلائق سائرها؛ لذا، فإنّا لَينبغي لنا، حين التّعاطي مع شتى صنوف العلوم، أنْ نُنزِلَها منزِلاً يليق بمقامِها؛ باعتبارها حجرَ أساسٍ لا مناصَ من استهلالٍ به كيما تقومَ للأمم و الحضارات التي نُشيِّدُ قائمةٌ.

إن كلاماً إنشائياً -كهذا- على ورقٍ قد لا يؤتي نتاجه في خضم واقعٍ -كذلكم- مريرٍ؛ و من ثَمَّ، يكون لزاماً علينا أن نتراجعَ -و ليس التراجع علينا بغريب- على أرض الواقع إلى الوراء خطوةً نتطلّع من خلالها إلى المشهد التعليمي العام كيف هو. 
و تقريباً لملابساتِ قضيةٍ -كتلكم- شائكةٍ على العقول و الأذهان، فإنّ ثمةَ صورةً ذهنيةً تُوافقُها مضموناً لا بد تُنتقى: الشجرة؛ و لْنتتبعْها من الجذور إلى الثمر صعوداً.

و قبل أن نخوضَ في هذا اليمِّ العميقِ ماؤه، فإنّا لَيلزمُنا إرساءُ دِعامتين أُوليين في عقل من يقعُ على عاتِقه حِمْل العبء التعليمي، فنكونَ -حينها- قد اصطفينا في سبيل تعليم فلذّات أكبادنا أزكى الأرَضين حرثاً، على أقل تقدير؛ و هذا -كما أرجو- مطلَعُ الخُطى نحو النهج القويم. أُولى هاتين الدِّعامتين: اعترافٌ حقٌّ علينا لزامٌ مفادُه أنّما عقل الطفل الصغير هو البذرةُ -في قوامِ هذه الشجرة- الذي لا بد ينهل من نهر العلوم المتدفِّق السّيّال بقدر ما تحتمله يداه و فاهُ الدقيقان، و ربما أكثر؛ نظراً لتجدُّدِ ذلكم النهر الجاري، و لِـما لهذا الصغير من عقلٍ أبيضَ لـمّا تكتنِفْه لوثةٌ من سوادِ الحياة الحالِك بعد. ثانيهما: اعترافٌ آخرُ -تسليماً منا و إقراراً- بأنّ تحقيق معادلةٍ -كتلكم- ترتقي بجيلٍ صغيرِ البُنية عظيمِ الفِكر ليس بالهيِّن و لا هو -بالمقابِل- بالمستحيل.


ثمّ إنّا -و بعد تمحيص ما تقدَّم من بذور المستقبل التعليمي- لا بد تحينُ منّا نظرةُ الممحِّصِ إياها، فنرومَ بها مُدققين ليس في مناهجِ التعليم التي نتخذها في مدارسِنا فحسب، بل في الكيفية التي تُقدَّمُ بها إلى العقول، لا سيّما و أنّ هذه المناهج هي ماءُ الصَّرح التعليمي الفُراتِ الذي بذرةُ طالِبِ العلم منه تعُبُّ. 
أمّا المناهج ذاتُها، فليس ثمة شكٌّ في مدى تطوُّرِها، بل الشَّكُّ اليقين واقِعٌ على مدى حاجتِنا إلى تطوُّرٍ في المناهج كهذا. إنّنا -و على هذا- نفترض خطأً أنّ ما يشي بمدى فاعلية مناهجَ كتلكم إنما هو مقدارُ ما تزخر به من استفاضةٍ في المعلومات، في حين أن افتراضاً كهذا ليس -في الواقع- مقياساً على الفاعلية دقيقاً، ما لم تكن هذه الاستفاضة موجهةً توجيهاً سليماً يتماشى و البيئةَ المحيطة بالأطفال و عقولِهم. و لمزيدٍ من الإيضاح و البيان، فلْنُمعِن النظر كرَّتيْن في المعلومات التي تتضمنُها كتبُ العلوم الثقيلةِ -و نِعِمّا هي-، كعلوم الطبيعة (الفيزياء) و طبقات الأرض (الجيولوجيا) و الكيمياء و الأحياء و الرياضيات، و مِثلُها في الفلسفة و المنطق و الجغرافيا و التاريخ؛ فما نحن واجِدون؟ كُتبٌ أثقَلها مُعِدُّوها بكمٍّ من المعلومات هائلٍ، ليس طالبُ العلم -المتقدِّم منهم حتى- في حاجةٍ لغالِبها، ناهيكم عن أنها لا تمُتُّ لطبيعةِ موطنه الجغرافيةِ و لا الطبوغرافيةِ بأدنى صلة؛ فأين الفائدة المرجوة من هذا كله؟ أفلم يكن من الأجدى أن تُقنّن هذه المناهج، بحيث يُحيطُ طالب العلم من كل علمٍ منها بقشورِه فحسب (و مَن سأل -مِن بعدُ- استزادةً، فالمكتباتِ لْيقصِدِ)، دونما خوضٍ في تفاصيلَ لا طائلَ من ورائها سوى مزيدٍ من الحشو الذي قد يَذهبُ بالعقول إلى غرَقٍ من غيرِما غُلَّةٍ يجيء بها؟! ثم أفلم يكن من الأجدى -مرةً أخرى- أنْ يُستَبدَل فيضُ المعلومات في تلكم العلوم بفيضٍ آخرَ يتواءَمُ و حياةَ الطالب المعيشية و العملية؛ كيما يكون عضواً في مجتمعه فاعلاً، لا خاملاً على وجهه بين الورى يهيم؟! إنّ هجوماً عنيفاً كهذا ليس يُشَنُّ لبغضاءَ أوغلتْ في الصدور على علومٍ كهذه، بل إنّما مرَدُّه إلى الحيِّز العظيم الذي شغلتْه و تشغلُه هذه العلوم في عقول أبنائنا و أوقاتهم؛ و ليتها -إذ طغت- بمنفعةٍ عليهم تعودُ!

و أمّا وسائل إيصال المعلومات -على الوجه الآخر-، فحدِّث و لا حرج: تلقينٌ، فتلقينٌ، ثم تلقينٌ في كنف سُلّمٍ تعليميٍّ متهالكٍ، مستنِدٍ إلى أرضٍ هشةٍ تُربتُها إعادةٌ في المعلومة و تكرارٌ؛ حتى إنه لا يتسنى لطالب العلم إذكاءَ جذوة الإبداع في نفسه من خلال النقاشات الفكرية مع معلمه، بل إن جذوة الإبداع هذه تنطفئ فيه تدريجياً مع كم المعلومات التي يتلقاها، و التي أودت بعقله إلى رُكونٍ إلى الكسل، فأمسى -إلى أن يبلغ من الكبر عِتِيّاً- قادراً على تلقي الأفكار فحسب -كما الآلةِ الصمّاء- دونما خلْقٍ أو إبداء رأيٍ أو نقدٍ أو تفنيد؛ هذا في حين أن نظرةً منا نتعطّف بها عليه و أُذناً سمّاعةً نُطيِّعُها لقوله لربما أسالتْ لنا جمود فِكره الذي تسببنا له به و لَادّخرت لنا مجهوداتٍ و أوقاتٍ ما كان مفترضاً لها أن تمضي هكذا هدَراً.


و بعد كل هذه المعوِّقات التي أخذْنا بأيديها بأيدينا و جعلْناها حجراً مُتراكباً يصّعّد إلى سدٍّ منيعٍ نراه رأْي العين أمام المستقبل التعليمي كالعملاق ماثلاً، أفَلسنا -بعد ذلكم كلِّه- نخجل أنْ نستجديَ العلم كيما يسمو بواقِعنا التعليمي؟!


ثم أنّى -بالله أسألكم- لشجرة العلم -برغم هذا- أن تستويَ على سوقِها فتُساقِطَ علينا ثمراً نفخر به في الخليقة جَنِيّاً؟!

الاثنين، 31 أكتوبر 2011

عذراً بخستُكِ تركيا*!

قبل أيامٍ قليلةٍ ماضية، هزت تركيا موجةٌ زلزاليةٌ عنيفةٌ لا يستهان بها، جاوز ضحاياها الست مائة ضحية، سارعت على إثرها دول عدة للتفريج عن كرب المنكوبين و التخفيف من أثر وقْع هذه النازلة عليهم...
كانت من ضمن هاته الدول: دولة بني صهيون اليهودية!

و لأني علمتني الحياة ألا آمَن لليهود جانباً في ردودِ أفعالٍ كتلكم، فقد تملكتني مخاوفُ شتى، أخذتْ بتلابيب مخيلتي ذات اليمين و ذات الشمال، فألفيتُني أتساءل:


"
تُرى...
لماذا هبّت إسرائيل لنجدة تركيا؟! ألِتتملقها، أم لتخطِب من المسلمين وُدَّها؟!
أم تُراها ابتغت -و ما ذلكم منها ببعيد- أن تظهر أمام العالم بمظهر الشريف الداعي إلى الصلح و الإصلاح؟!"

"و هل ستتعاطف تركيا -على الجانب الآخر- مع القضية الإسرائيلية، على ضوء ما ستمدُّ به لها الأخيرة من يدِ عونٍ، بُعيْد الزلزال المدمر الذي حاق بها؟!

و هل ستلتئم -بمَعوناتٍ كهذه- العلاقاتُ الدبلوماسية بين البلدين، خاصةً بعدما أشعلت تركيا شرر القطيعة بطردها السفير الإسرائيلي إثر اعتداء إسرائيل السافر على أسطول الحرية التركي، الحامل إلى فلسطين خيراتٍ من أيادي أهل تركيا البيضاء؟!
ثم هل سيكون في طَوِيّة تركيا التغاضي و الصَّفح عما كان من إسرائيل من هجومٍ على أسطولها ذاكم، مقابل رشاوى الاستمالة الإسرائيلية هذه؟!"

طافت هذه التساؤلات حول رأسي كالصواريخ، فأصابته بالدوار؛ و توارت عن ناظريْه -في غمرة تفكُّرِه- كل ما قامت به الدول الأخرى من مبادراتٍ خلف حماقة المبادرة الإسرائيلية!


ثم تلاشى كل أثرٍ لهذه الشكوك من عقلي دفعةً واحدة، بعدما علمتُ من أمرِ صرخةِ تركيا في وجه إسرائيل و مدِّها يدَ الاعتراض نحوها، فيما تتقبل يدُها الأخرى -المبسوطة عن آخرها- كل الهِبات الأخرى من واهبيها بقَبولٍ حسَنٍ، و على وجهها أسمى علائم الرضا و أبهى قسَمات الامتنان!


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) لستُ ضالعاً في السياسة، و لكني أعجب لأسلوب تركيا في التعامل مع إسرائيل، فأجد قلمي مُلزماً بسكب حبره طرباً و فخراً!


الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

خطأ أم خطيئة*؟!

يتوجه كثيرٌ من الآباء بقدحٍ لأبنائهم عظيمٍ و تقريعٍ إذا ما ارتكبوا أحقر الأخطاء؛ إذ لا يحق -طبقاً لمنطق الآباء- لابنٍ من البنين أن يخطئ، و إلا كان العقابُ جسيماً.

و هنا سؤالٌ دخيلٌ لا أجد له إجابةً لدى الآباء تشفي لهيباً يستعر فيني:

أليس من حق الصغير -كما للكبير حق- التجربةَ فالخطأَ فالتعلم؟!


و سؤال آخر لا بد يليه:

هل خَلَتْ أعمار الكبار المديدة من أخطاء؟!

فكيف -بالله- تعلموا؟!


و على ذلك، و إذا كان الصدقُ -كما لقننا الدين العظيم- منجاةً و رفعةً و حُسنَ عاقبةٍ، و الكذبُ -تبعاً لتعاليم الدين الحنيف- وبالاً و خيبةً و سوء مآلٍ، فإنَّ معاملةً كهذه لا بد تعكس قطبيْ مفاهيم عقل الصغير: فتراه يلجأ للكذب مخافة العقوبة إنْ هو صدق؛ و تراه ينفر من الصدق نفورَه من شيطانٍ رجيمٍ خُلقَ من نارٍ سمومٍ تحرق أصابعه الدقيقة، فتُهلكُها.


عندها، ترى بين يدي الصغير كذباً أسودَ فاحماً يحاكي سواد الليل إذا جنّ؛ و ترى عقله خاملاً، خاوي الفِكر؛ و ترى شخصه يرزح تحت سطوة جبروت الكبت، جباناً رعديداً، يهاب تجارب الحياة جميعاً، لا يلتقم إلا ما يُطعمه أبواه من بنات أفكارهم؛ ثم إذا ما شبّ يكون عالةً على غيره، يترنح فيهم كالمخمور يمنةً و يسرة، متشائماً من عواقب التجربة، لا يحسن في الحياة صنعةً و لا تصريفاً لشؤونه و لا تدبيراً.


و بحرمانٍ من تجربة الحياة و جورٍ في معاملة الصغير كذيْنكُم، أنشأنا لنا نشْءاً عمادُه روافدُ هشةٌ من الزيف و ضعف الذات.


فأنَّى له في الحياة -بعد ذلكم- أن يحيا؟!


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أعني بـ (الخطأ) هاهنا ما يكون من سقْطٍ في أمرٍ من أمور الدنيا، و أعني بـ (الخطيئة) ما يكون من ذنبٍ يجترّ السيئات؛ فبأيهما وقع الأبناء كيما تكون تلكم عقباهم؟!

و درءاً لمغبة سوء تلقي المتلقي، فلستُ أدعو -في ما سبق من مقال- إلى ترك الآباءِ أبناءَهم همَلاً، و لكني أصبو إلى أن يعيَ الآباء أنما تلكم هي تجاربهم و قناعاتهم و حيواتهم، فماذا عن تجاربنا و قناعاتنا و حيواتنا نحن الأبناء؟!
ثم، أليس لنا في حيواتنا حقَّ إحداث التغيير، و لو لم نتبع خُطاهم؟!

الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

آباءٌ و بنون*!

حُباً بهم، و مخافةً عليهم من مستقبلٍ مجهول، يلجأ بعض الآباء إلى أسْر أمانيّ بَنيهِم -أياً كانت- بلجامٍ مُحكم من البِرّ و العقوق، لا يَميزُون فيه ما للأبناء في الحياة من مآرب، فتراهم عاكفين يستنسخون أنفسَهم بقناعاتها ليصبُّوها في ذُرياتهم صبّ القِطْر.

فمَن أخذ -من بنيهِم- بما استُنسِخ له، فثَمّ الجنة؛ و من لم يقْرَبه منهم، فالنار أولى به. و عليه، فإنَّ ترْكَ الأبناءِ أمانيَّهُم هو ما يستجلب لهم رضا الآباء، فيما يستوجبُ تمسُّكُهُم بها سَخَط الآباء عليهم.


و ترى البنين المساكين -عندئذ- على ما أعلنوا نادمين، تفيض أعيُنُهم من الدمع حَزَناً، مُتحلّقين حول مقصلةِ البِرّ و العقوق، حيارى بين مطرقةٍ و سَندانِها، يتوجسون ضربةً بين المَطارقِ و السَّنادين تفضخُ منهم الرؤوس.


ألا فالرِّفقَ آباءَنا؛ فإنَّ الحياة مرنةٌ لدنة.

و أما القناعات، فليست ميراثاً لا بد يُوَرَّث؛ و ليس الفكرُ إلا في تبدلٍ ما له مِن منتهى.

فهلا يسّرتُم -على المُعسِر- يسيراً أيها الآباء؟!

و هلا كففتُم عن لعِبِ لعبةِ "مفترق الطرق"؛ خشيةَ أنْ تفترق بنا السُبُل في أُخرانا، حيث لا لهوٌ هنالك و لا لعبٌ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مع خالص الاعتذار للكاتب الروسي (إيفان تورغينيف)، صاحب رواية تحمل الاسم ذاته.


الثلاثاء، 19 يوليو 2011

الزنجي الأخرق*!


استطراداً لما سبق من سجالٍ بيني و بين ذاك الزنجي، فبعد قُبيل الشهرين، و إثر اجتماعٍ آخرَ أسبلتُ فيه معطفي، تم استدعائي إلى مكتب إحدى ذوات المناصب في كلية الطب و التي سلمتني مظروفاً بنياً من الورق المقوى كُتب عليه بالإنكليزية بخط يد أنيق: [من "روتومي" -و هذا هو اسمه- إلى "عمر المسلّم"]. فضضتُ المظروف و قد استشففتُ ما فيه قبل أن أقرأ حرفاً. فردتُ الورقة، فإذا هي مطبوعةٌ -هي الأخرى- بخط إنكليزي ذا -و الحق يُقال- أسلوبٍ جذّاب. مررت على السطور مروراً؛ إذ -كما أسلفت- كنت متوقعاً ما سيجيء.

إليكم نص ما جاء في الخطاب، و قد ترجمتُه
:


"كنتُ في مناسبتين سابقتين قد أنذرتك أن تُحكِم أزرة معطفك الطبي داخل معمل الجراثيم كما هو مُتطلبٌ من جميع العاملين في هذه الوحدة كإجراء احترازي اعتيادي. و حينما أمرتك باتباع اللباس الاحترازي المعمول به في معمل الجراثيم في المناسبة الثانية التي وقعت خلال الاجتماع الشهري للمعمل، رفضتَ رفضاً قاطعاً، فعجلتُ إلى استدعائك إلى مكتبي لمعرفة ما حداك إلى الإقدام على تصرف كهذا. و كما أذكر، فقد عزوْتَ صنيعك هذا إلى بعض الأساتذة معنا في الاجتماع لم يكونوا يلتزمون اللباس المخبري، فأرشدتك إلى الفارق بينك و بين أولئك "الأساتذة" و أنذرتك ألا تعود لخرق نظم السلامة التي كنتَ حُمِّلتَها و مهرتَها بإمضائك
.


إلا أنني، و في الاجتماع الشهري للوحدة المقام صبيحة اليوم، فوجئت بظهورك مسبِلاً معطفك الطبي بلا أزرة محكمة، فأشرتُ إليك أنْ أحكِمْها بيْد أنك تجاهلتني. ثم إني طلبتُ إليك بهدوءٍ و تأدبٍ أن تُحكِمها أو تغادر المخبر، ففضّلتَ -في الآن و اللحظة- مغادرة الاجتماعِ و المخبرِ أجمع
.


إن صنيعاً كهذا صنيعٌ مستقبح، و لن يُقابَل عدم احترامِك المتعمد لرئيس الوحدة و نشوزِك عن قواعد السلامة المفروضة بالصفح. فليكن هذا وعيداً مني إليك. و إنْ حدَثَ و فعلت فعلتك التي فعلت ثانية، فإني مُلزمٌ بإعداد تقرير رسمي بحالتك إلى إدارة المختبرات
.


تحياتي،
"


انتهى كلامه
!


لم أشأ يومها أن ألبث في مكاني ملتزماً الصمت كما الغر، فعزمتُ أمري -و بكل هدوء- على أن أرد على ما جاء في خطابه، فوجدتني أمضي إلى المشفى لأطلب مظروفاً و ورقةً مماثليْن، فلم يُلبَّ مطلبي
.


بيد أني، و بُعيْد يومين لا أكثر، وجدته رابضاً في مكتبه كما الجثة، فأحكمتُ اثنين من الأزرة كي تقر عينه و لا يحزن
.


و ضمَّ مكتبه كلانا فحسب
.


قدّمتُ إليه ـفي بادئ الأمر- اعتذاراً على ما كان مني، ثم جادلته بالتي هي أحسن، فقلت له: "هل أنت على أتم الاستعداد لتخسر جهود موظفٍ مخلصٍ لسبب تافه كهذا؟! إن إحكام أزرة المعطف يتذيل عندي -لتفاهته- قائمة أولوياتي، و أنت ذا تتجاهل كل محاسني لسيئةٍ رأيتَها فيّ، فهل يُعقل هذا؟! لتُلقِ نظرةً على سجليَ الوظيفي، و ستجد أني لم أتخلف دقيقةً واحدةً طوال سبعة الأشهر التي عملتُ فيها! أتناسيتَ كل هذا الولاء لأجل بضعة أزرةٍ في معطف؟!
"


طال به الصمت -بعد قولي هذا- حتى ظننته وثناً ماثلاً قبالتي إلى أن حلّ الله له عقدة لسانه، فقال -أخيراً- و بكل سذاجة و بصوته العميق الذي تمتزج فيه الأحرف: "ليست المسألة مسألة أزرةٍ في معطف، بل إنها مسألة مبادئ و أسس. إني أحضر قبل ميعاد دوريتي بساعةٍ تقريباً، فهل يُعَدُّ هذا ولاءً؟"، فتبسمتُ ضاحكاً من قوله و هدرتُ فيه: "و ما قولُكَ في من ينام داخل مركبته ليلاً كي لا يتخلف عن ميعاده؟". ما إن قلتها حتى قفز حاجباه دهشةً، غير أني تجاهلته و ختمت مجلسنا باعتذار آخر كالقذى يصيب منه العينين، ثم غادرته و هو في حيرته يتردد
.


ألا يا أيها الزنجي: دعك مني، فمالَك و مالي؟
!


ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عذراً على اللفظة، و لكني لقّنتُ قلبي ألا يحابي و نسيت ما بين لِحيَي في فورةٍ من غضب!

الخميس، 5 مايو 2011

فبُهِت الذي كفر!

بالأمس، و في الاجتماع الشهري لفنيي معمل الجراثيم، كنتُ -كغيري- أستمع لما يُقال؛ و فجأةً، بتر محدثنا -و هو مسؤولٌ أفريقيٌّ نصراني- حديثه موجهاً سيل الكلام لي قائلاً في حزم: "أَحكِم أزرة معطفك"، فلم أفعل، و اصطنعتُ عدم السمع.

فلما أن فرغ من حديثه ذاك -و ليس بذي أهمية تُذكَر-، استدعاني بقوله: "إليَّ على انفرادٍ في مكتبي لكلمة"، فعجِلتُ و كُلي إقدام
.

و ما إن ولجتُ حتى هدر بالإنكليزية التي لا يتحدث سواها: "حينما آمرك بإحكام أزرة معطفك، فإني أعني ما أقول"، فرددتُ و بكل هدوءٍ و ثقة أنْ: "إنني، إذ أرى عدم اكتراثٍ بارتداء المعطف ممن هم أعلم مني و أقدر، فإنني أفخر إذ أضعه بلا أزرة محكمة"، فزمجر حيال المنطق: "إنك مبتدئٌ، و لستَ مُخَوَّلاً بأمرهم كونك دونهم بدركاتٍ"، فابتسمتُ ساخراً: "إنّ كونهم أعلى مني قدراً و أسمى مني منزلةً علمية لا يجعل منهم مُحصَّنين ضد البكتيريا و الجراثيم!"، فبُهِتَ الذي كفر، و تلعثم، و لم يحر جواباً شافياً، و تقهقر مدحوراً قد قُهِر: "ليس هذا ما عنيت!"، ثم إنه خرج و لم يعد
.

و إليه و إلى من على شاكلته، أسوق أربع الآيات: "مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
".

و حسبي الله
!

السبت، 26 مارس 2011

و تزلزلت!

"ستُزَلزَلُ الأرض تحت أقدامنا!"

و لأنني بشرٌ هزيلٌ...

فقد هدَّ النبأ أركاني، فَدَكَّ كَوْني و وجداني!

و لأنني بشرٌ هزيلٌ...

فما إنْ صكَّ مسامعيَ البلاغ، حتى رأيتُ "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا" تطوف بي طواف الحاج بالكعبة، و أبصرتُ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" مُقبلةً من قريبٍ بوجهٍ مكفهرٍ حالِكٍ، فألفيتُني مُحاصَراً بين ثلاثةٍ عِظامٍ يتقدمني منها "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ"، و عن يمينها "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ"، و عن يسارها "أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ"، فأيقنتُ -يقين القلب النابض في صدري- أن حياتي إلى زوالٍ إلا أن يأتي الله أمراً كان مفعولاً!

ثم إن وجوهاً باسمةً -لطالما ألِفتُها و عشقتها- قد طوَّفَتْ بي، ثم ما لبثتْ أن طوقتْ مني العنق لتخنقني و تسلب مني -بعدما سُلِبتُ النوم- روحاً كُتِب عليها منذ الأزل -أو قبله- أن تَرَدَّى، فتحجرتْ دموعي في مقلتيَّ إذ أراها -رأي العين- من حولي صرعى قد ضرّجت أجسادَها حمرةُ الدماء!

فهل -يا ترى- سنشهد هذا المشهد الدامي، أم تُرانا نقضي في هدوءٍ و سكينة؟!
و هل حان قطاف أرواحنا؟! و هل أزِفَ استخلاف خلقٍ دوننا؟!

لستُ -للأسف- أجدُ جواباً شافياً...

لأنني بشرٌ هزيلٌ!

الخميس، 17 مارس 2011

!You, who know

Dear You, Who Know,

You, who know I am conversing you...

Your existence in my life is much vital than air to my lungs, much precious than blood to my heart, and much crucial than gaiety to my soul!

You, who know I am conversing you...
I glanced skywards and found our star-free sky grim, with dark growing clouds; I peeked earthwards and perceived our ground beneath dehydrated, thirsting for trickling raindroplets that would moisten the drought inhabiting the souls!

You, who know I am conversing you...

I missed, ever missed, the light you shed with your brightful smile; I longed, ever longed, for your shiny brainchildren that enlighten my roads when life darkens as the sunlight fades and as the moonlight dims.

You, who know I am conversing you...

Please forgive the sins I committed, only -and only- for the sake of love that has ever tightly tied our lately-loosened hearts!

That is, and may your heart be delighted once and forever.

It may?!

Yours,
You Know Who

الثلاثاء، 8 مارس 2011

تباً لها*!

أغرته، فأغوته!

و العجيب كيف أنها كانت مُغيَّبةً -أو أنها قد غضّت الطرف- عما تسببت به!

 رشقَته بسهمٍ من لحظِها، فعشِقها كالممسوس!

 لم يؤمن قط -و لم يكن ليؤمن- بحبِّ النظرة الأولى...لولا ما قاسى!

 لقد تركَته كالجثمان بلا روح، بعدما تآكل فؤاده المكلوم المثقل، و غدا خرقةً باليةً مزقتها سهامُ لَحْظِها!

 لقد غادرَته و هو يتقلب محتضراً قد اكتوى لحمه إلى ما يضاهي سواد الفحم الفاحم في لهيب عشقها!

 تحجرت مقلتاه بعدما سحّتا من الدمع -إذ استعاد ذكراها- ما روى الأرض تحت قدميه؛ و لم تبصر عيناه بعدها غير خيالاتٍ كظلمة الليل الحالك، يتخللها بصيص من شعاع ثغرها الباسم يوم لاقاها!

 يذكر -مما يذكر- أنه شيّعها بخافِقٍ مفطور و خاطرٍ مكسور!

 و يذكر -فيما ادّكر- أنها لم تودعه و لو بطرفة عين!

 يومها هضم قلبه المنطق و تَشَرّب المفهوم...

علِم -يومها- أن للحب ثمناً قد تُسلبُ من أجله الروح، ثم قد لا يؤتي أُكُلَه!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قصةٌ جِدُّ قصيرةٍ لا تستقصد أحداً.

الجمعة، 11 فبراير 2011

رجالٌ، و لكن...*!


و بعد جولةٍ طويلةٍ نوعاً في رحاب عربتي التي استوقفتها محطاتٌ عدةٌ ساقتني إليها مشيئة الباري، أعود فأضرب ناقوس مجتمعي الصغير مجدداً...و بمنتهى العنف!

فإني -و بلا مقدمات- لأعجب -من ناحيةٍ- للرجل في مجتمعي كيف أضحى حاله، و إني -من ناحيةٍ أخرى- ليصيبني الذهول إذا علمتُ ما آلت إليه المرأة في المجتمع ذاته.

قد كانت المرأة في مجتمعي هذا -و ما زالت- هي المنوطة بكل المهام الوظيفية الجوهرية في الحياة؛ و لربما كانت المسؤول الأول، قبل الرجل حتى؛ حيث غدت هي الأصل و أضحى الرجل هو الصورة عنها، لتنطبق العبارةُ القائلة -و إني لَجِدُّ كارهٍ للاقتباسات-:"وراء كل رجلٍ عظيمٍ امرأة" على حيواتنا انطباق السماء على الأرض قُبيْل يوم الحشر الأعظم!

 و لما كانت المرأة هي العضو الفاعل الفعال -و مَثلُها كمَثَل مسكنات الألم الاصطناعية إذا هي ولجتْ الجسد السقيم-، فقد عطَّلت دور الرجل -و مَثَلُه كمَثَل الأجسام المضادة التي استودعها الحيُّ القيومُ الجسدَ البشري الواهن-؛ و لما أن تعطل دور الرجل، أصبحت هي -المرأة- عصاه التي لا تفارقه و يتوكأ عليها و يهش بها على أزمات الحياة!

 ثم لما أن تراجع الرجل و توارى كما يتوارى الجرذ في جحره، فإنه أفسح المجال كله للمرأة التي استقبلت وحدها الجيل القادم؛ و لما كانت المرأة -أية امرأة- تُسيِّرها العاطفة في أمور حياتها، فإنها ستزن تربية هذا الجيل -فتياناً و فتياتٍ- بميزانٍ واحدٍ جائرٍ، قائمٍ على هذه العاطفة، فيُبخَس حقُّ الصبي في التربية فيما تستوفي الفتاة معظم حقها!

 و هنا -و بلا مزيدٍ من الإسهاب- تولد الطامة!

 و كما كانت المرأة -يوماً- عكازةً يستند عليها الرجل، فقد ورثها الابن عنه، و غدا لا يستغني عنها كما لم يستغن عنها -من قبل- أبوه!

 و عندها -و بمزيدٍ من الاختزال- تولد طامةٌ أخرى!

 فعندما أينعتْ زهرة هذا الصبي عن شابٍّ فَتِيّ، و أضحى حلمه مقارعة العالم و مجاراته، تَفَقَّد عكازته فلم يجدها، و وجد كل من سواه يمشون الهوينى في حيواتهم و بلا عكازات، فتحسر قافلاً إلى حيث جحره كما الجرذ مثخناً بطعناتٍ شتى تركت فيه جِراحاتٍ غائرةٍ في اللحم لا تندمل!

و سؤالي العالق هاهنا:

كيف -بالله عليكم- بالذي اعتاد في صغره الاتكال في جل أمور حياته أن يستجدي نفسه -يوم أن بلغتْ من الكِبَر عِتِياً- أن تتعطف عليه بشيءٍ من الثقة و إثبات الذات؟!

و كيف للجسد الذي اعتاد الموت أن يحيا من جديد؟!

ثم من المُلام و من الملوم بعد كل هذا؟!

أجيبوا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) قد يظن الظان أنني -بمقالي هذا- إنما أتحامل على المرأة أو أبخس حقها، غير أنني أنفي هذا جملةً و تفصيلاً. و حسبي من هذا المقال أن أستجمع شتات معادلةٍ موزونةٍ في التربية قوامها الرجلُ و المرأةُ الاثنان معاً، لا يطغى فيها أحدهما على الآخر، حتى نرتقي -في نهاية المطاف- بجيل واثقِ الخطى لا مضطرِبَها.

السبت، 29 يناير 2011

ذاكرة النسيان*!

و يتكرر المشهد مرةً تَلُوها الأخرى، و ثالثةً تتبعها كرّاتٌ -مِن بعدها- تترى.

كثيراً ما تتسبب ذاكرتي لي بالمعضلات؛ فهي تسترجع -دونما زيفٍ، و لا لبسٍ، و لا تلفيق- صور الشخوص و ما تلفظتْ به ألسنتها، بل إنها لتزيد على ذاك حتى تغمرني بأدق التفصيلات التي قد يصفها الواصفون -و أظنهم محقين بعض الشيء- بالتافهة.

و ليت المسألة -إذ كانت- كفّتْ عند هذا الحد!

فمما زاد الطين بلة أن ذاكرتي قد نُسب إليها ما ليس فيها، فتم وصمها بأنها مُغرَقةٌ بالتهيؤات و الخيالات التي تلبسُ عليَّ الحق بالباطل و تمزجهما -من ثَمَّ- معاً، ثم تعجنني -أنا- في هذا الخليط اللامتجانس، فيبتلعني، حتى يسوقَني إلى أن أقولَ ما لم يكن و أذرَ ما كان.

و ليت المسألة -إذ كانت- كفّتْ عند هذا الحد!

فلقد أضحتْ ذاكرتي محطَّ شكٍ لا يقينَ فيه ممن تساوره الظنون، و أمستْ مثارَ سخريةٍ عند مَن يفتقد هذه المَلَكة المهداة من رب السماء، فغَدَتْ -في نظر الناظرين- ذاكرةً يعتريها الخطأ و يُجانبها الصواب في غالب الأحوال.

و ليت المسألة -إذ كانت- كفّتْ عند هذا الحد!

لقد أصبح مجرد وجودي يبعث على النسيان عند كل من يجالسني، و كأنما أنا محاطٌ بهالةٍ معكوسةِ الأقطاب عما يجول في ذاكرتي، فلا يعود للذكرى -بعد ذاكم- موقعٌ و لا محلٌ من الإعراب في عقل جليسي. هذا، و لا تنفك ذكريات جليسي أن تعاود الانسياب والتدفق كنهرٍ مع كل مَن هُم دوني و ينفلت السهم من نَبله، حتى لكأني أرى الذي للتو كان جليسي الصامت ينبش الثرى نبشاً باحثاً في ذاكرته عن ثمة ما يقال، مهما كان تافهاً!

غير أنني أتصدى لكل ذاكم، قائلاً في شممٍ إنه لولا عظيمِ اهتمامي -الذي اتضح لي أنه جرمٌ عظيمٌ في نظر الناظرين-، لما ادَّكَرْتُ أبعد مما تحويه هذه الجدران الأربعة التي تحوطني من كل جانب!

و يكون خطئي -أنا- أن لي ذاكرةً جبارةً في زمنٍ تسيّده النسيان؛ و يكون عزائي الأوحد -في ختامي هذا- أنَّ البشر هكذا هم -مُذ مدَّ ربيَ الأرض و أرسى جبالها، و بسط السموات العلى و سيّر غمامها- يكفرون بما لم يؤتَوْا و يصعُب إقناعهم بالذي أوتيتَ.

و لَكَم لكُم في صفحات التاريخ -تِلْكُم- صورٌ و عبر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) إلى كل من يقرأ بعين البصيرة، و إلى كل من يعرفني حق المعرفة، هذا مقالٌ خُطَّ للبيان و التوضيح لا التقريع و التجريح!

الخميس، 20 يناير 2011

عقلاءُ جهَلة*!

أفترض أنني قد توصلتُ إلى أنه لا يمكن للعقل البشري مكتملِ النضوج -بأي حال من الأحوال، و أياً بلغتْ حنكته، و براعته، و قدرته الاستيعابية- أن يتخيل إلى أي مدىً من الجهل يمكن أن يؤول هو -نفسُه- إليه.


فلقد قرأت -فيما أقرأ- قصتنا -نحن البشر-، حيث شيّدنا في بداياتنا، فيما قبل التأريخ، أُطُرَ أروعِ صور التخلف، و أبهى حُلل الجهل، و أسمى آيات الانحطاط؛ و كلها شواهد يحُطُّ بعضُها قدرَ بعض.

و ما لبثتْ هذه الشواهد -المُقامة على ركائز التخلف، و دعائم الجهل، و روافد الانحطاط- أن شكلتْ وجه البشرية الدميم في تيكَ الأحقاب السحيقة الغابرة إلى غير رجعة.

ففيما يختص بـ "عش الزوجية"، فقد رسم الإنسان الأول على صدر الزمن أبشع الصور، مما قد يهُدُّ ذاك الصرح المعروش عن بكرة أبيه ليدفنه في أسفل الأرَضين، فيذرَه قاعاً صفصفاً، كأن لم يكن.

لقد كان الإنسان الأول يعاشر ما لذ له من النساء، بلا ضميرٍ و لا وازعٍ و لا معرفةٍ تردعه، ما حدا بالأنساب أن تختلط اختلاط الملح بالسُكَّر.

ثم إن دور الواحد من الرجال في كنف الأسرة، التي كانت المرأة قوامها الأول وقتئذ، كان لا يتعدى دور المُنجب الأول من الشريكين. و لم تكن هذه الشراكة بالمعنى المعروف في زماننا؛ فقد اجتاحت الإنسانَ الأول الشيوعيةُ حتى في الجنس الذي يمارسه؛ فلا أزواج -هنالك- و لا زيجة، و لا أنسابَ -يومئذٍ- و لا ولد.

و ما لبث السلطان و الجبروت أن أصبحا مِلك يمين الرجل -الذي تباينت و تشكلت معالم فحولته-، فما انفك يستغلهما -السلطان و الجبروت- بعقلٍ دونما لجام؛ و تزامن هذا -آنذاك- مع شروعِ روافد الأسرة بالتفيؤ، فأضحتْ للرجل زوجةٌ آمنةُ القرار يلوذ بها و يسكن إليها.

غير أن معايير الرجل تجاه المرأة كانت تامةَ الاختلاف عما هي عليه الآن؛ فلقد كان -و يا لسذاجته!- يرى في البغِيِّ إقبالَ الرجال و فُضلى الخصال، و يرى في البكر -و يا لوضاعته!- فرارَ الرجال و قمة العار و الإذلال.

و يا له من منطقٍ تُعالَج به مقتضيات الأمور!

فاعتبر، ثم احمد الله على تدبيره، و الْهج بقولِ: "قل إنني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ ديناً قِيَماً".

هذا، و لله الأمر من قبل و من بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
جميع المعلومات الواردة مُستقاةٌ بالكامل من (قصة الحضارة)، عدا أنني صغتها كَرةً أخرى.