فويلٌ لكُم –إذن– أيُّها المطفِّفون!
ذلكم ذِكرى للذَّاكرين!
رسائل مبعثها القلب، علَّها تَرِدُ القلب.
قبل أيامٍ قليلةٍ ماضية، هزت تركيا موجةٌ زلزاليةٌ عنيفةٌ لا يستهان بها، جاوز ضحاياها الست مائة ضحية، سارعت على إثرها دول عدة للتفريج عن كرب المنكوبين و التخفيف من أثر وقْع هذه النازلة عليهم...
حُباً بهم، و مخافةً عليهم من مستقبلٍ مجهول، يلجأ بعض الآباء إلى أسْر أمانيّ بَنيهِم -أياً كانت- بلجامٍ مُحكم من البِرّ و العقوق، لا يَميزُون فيه ما للأبناء في الحياة من مآرب، فتراهم عاكفين يستنسخون أنفسَهم بقناعاتها ليصبُّوها في ذُرياتهم صبّ القِطْر.
بالأمس، و في الاجتماع الشهري لفنيي معمل الجراثيم، كنتُ -كغيري- أستمع لما يُقال؛ و فجأةً، بتر محدثنا -و هو مسؤولٌ أفريقيٌّ نصراني- حديثه موجهاً سيل الكلام لي قائلاً في حزم: "أَحكِم أزرة معطفك"، فلم أفعل، و اصطنعتُ عدم السمع.
"ستُزَلزَلُ الأرض تحت أقدامنا!"
و لأنني بشرٌ هزيلٌ...
فقد هدَّ النبأ أركاني، فَدَكَّ كَوْني و وجداني!
و لأنني بشرٌ هزيلٌ...
فما إنْ صكَّ مسامعيَ البلاغ، حتى رأيتُ "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا" تطوف بي طواف الحاج بالكعبة، و أبصرتُ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" مُقبلةً من قريبٍ بوجهٍ مكفهرٍ حالِكٍ، فألفيتُني مُحاصَراً بين ثلاثةٍ عِظامٍ يتقدمني منها "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ"، و عن يمينها "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ"، و عن يسارها "أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ"، فأيقنتُ -يقين القلب النابض في صدري- أن حياتي إلى زوالٍ إلا أن يأتي الله أمراً كان مفعولاً!
ثم إن وجوهاً باسمةً -لطالما ألِفتُها و عشقتها- قد طوَّفَتْ بي، ثم ما لبثتْ أن طوقتْ مني العنق لتخنقني و تسلب مني -بعدما سُلِبتُ النوم- روحاً كُتِب عليها منذ الأزل -أو قبله- أن تَرَدَّى، فتحجرتْ دموعي في مقلتيَّ إذ أراها -رأي العين- من حولي صرعى قد ضرّجت أجسادَها حمرةُ الدماء!
فهل -يا ترى- سنشهد هذا المشهد الدامي، أم تُرانا نقضي في هدوءٍ و سكينة؟!
و هل حان قطاف أرواحنا؟! و هل أزِفَ استخلاف خلقٍ دوننا؟!
لستُ -للأسف- أجدُ جواباً شافياً...
لأنني بشرٌ هزيلٌ!
أغرته، فأغوته!
و بعد جولةٍ طويلةٍ نوعاً في رحاب عربتي التي استوقفتها محطاتٌ عدةٌ ساقتني
إليها مشيئة الباري، أعود فأضرب ناقوس مجتمعي الصغير مجدداً...و بمنتهى العنف!
و يتكرر المشهد مرةً تَلُوها الأخرى، و ثالثةً تتبعها كرّاتٌ -مِن بعدها- تترى.
أفترض أنني قد توصلتُ إلى أنه لا يمكن للعقل البشري مكتملِ النضوج -بأي حال من الأحوال، و أياً بلغتْ حنكته، و براعته، و قدرته الاستيعابية- أن يتخيل إلى أي مدىً من الجهل يمكن أن يؤول هو -نفسُه- إليه.